بسم الله الرحمن الرحيم
من سمات الصالحين
البكاء من خشيه الله
إن أهل المعاصي ليسوا من الله في شيء فقد اجتمعت على قلوبهم الذنوب حتى صارت قلوباً قاسية كالحجارة أو أشد قسوة وأبعد القلوب من الله القلب القاسي أما أهل الإيمان فهم أهل الله وخاصته الذين ما تركوا لله طاعة إلا شمروا عن ساعد الجد لأدائها وما علموا بشيء فيه رضا لله إلا فعلوه راغبين راهبين فأورثهم الله نور الإيمان في قلوبهم فصارت قلوبهم لينه من ذكره تعالى وقادت جوارحهم للخشوع فما تكاد تخلوا بالله إلا فاضت أعينهم من الدمع من كمال خشيته وكانت تلك الدموع أكبر حائل يحول بين صاحبها وبين النار .
ولقد أثنى الله في كتابة الكريم في أكثر من موضع على البكائين من خشيته تعالى فقال جل شأنه [وقرءاناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا] الإسراء 106-109 .
وقال تعالى [أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبين من ذريه آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذريه إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا] مريم 58 .
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ لايلج النار رجل بكى من خشيه الله حتى يعود اللبن في الضرع ولايجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ] رواة الترمزى .
قال المباركفوري قوله [ لا يلج ] من الولوج أي لا يدخل [ رجل بكى من خشيه الله ] فإن الغالب من الخشية امتثال الطاعة واجتناب المعصية [ حتى يعود اللبن في الضرع ] هذا من باب التعليق بالمحال كقوله تعالى [حتى يلج الجمل في سم الخياط] الاعراف 40 .
وروى الترمزى عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشيه الله وعين باتت تحرس في سبيل الله]
قال المباركفورى [ عينان لا تمسهما النار] أي لا تمس صاحبهما فعبر بالجزء عن الجملة وعبر بالمس إشارة إلى امتناع ما فوقه بالأولى [عين بكت من خشيه الله] وهى مرتبه المجاهدين مع النفس التائبين عن المعصية سواء كان عالماً أو غير عالم [وعين باتت تحرس في سبيل الله] وهى مرتبة المجاهدين في العبادة وهى شاملة لأن تكون في الحج أو طلب العلم أو الجهاد أو العبادة والأظهر أن المراد به الحارس للمجاهدين لحفظهم عن الكفار وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ سبعه يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ] وذكر منهم [ ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ] متفق عليه .
قال القرطبي وفيض العين بحسب الذاكر وما ينكشف له فبكاؤه خشيه من الله تعالى حال أوصاف الجلال وشوقاً إليه سبحانه حال أوصاف الجمال .
وروى ابن أبى الدنيا عن حمزة الأعمى قال : ذهبت بي أمي إلى الحسن فقالت يا أبا سعيد ابني هذا قد أحببت أن يلزمك فلعل الله أن ينفعه بك قال فكنت أختلف إليه فقال لي يوما : بابني أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه وابك في ساعات الليل والنهار في الخلوة لعل مولاك أن يطلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين .
ومن أقوال الحسن البصري : بلغنا أن الباكي من خشيه الله لا تقطر من دموعه قطره حتى تعتق رقبته من النار وقال أيضاً : لو أن باكيا بكى في ملأ من خشية الله لرحموا جميعا وليس شيء من الأعمال إلا له وزن إلا البكاء من خشية الله فإنه لا يقوم الله بالدمعة منه شيء وقال : ما بكى عبد إلا شهد عليه قلبه بالصدق أو الكذب .
وقال أبو جعفر الباقر : ما اغرورقت عين عبد بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار فإن سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذله وما من شيء إلا وله جزاء إلا الدمعة فإن الله يكفر بها بحور الخطايا ولو أن باكيا بكى من خشية الله في أمه رحم الله تلك الأمة.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : لأن أدمع دمعه من خشيه الله عز وجل أحب إلى من أن أتصدق بألف دينار .
وقال كعب الأحبار : لأن أبكى من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهبا .
وعن أبى معشر قال : رأيت عون بن عبد الله في مجلس أبى حازم يبكى ويمسح وجهه بدموعه فقيل له لم تمسح وجهك بدموعك ؟ قال : بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار .
وبالتأمل في سيرة هؤلاء الصالحين الباكين من خشية الله تعالى نجد أنهم اشتركوا في صفة واحدة على تنوع عباداتهم واجتهاداتهم في طاعة الله تعالى تلك الصفة هي الإخلاص المنافي للرياء فلقد كانوا رضي الله عنهم أبعد الناس عن أن يراهم أحد حال البكاء حرصاً منهم أن لا يدخل العُجْب قلوبهم فتبطل عبادتهم وتراهم شددوا بلسان الحال والمقال على هذه الصفة ابتغاء نيل الأجر كاملاً غير منقوص من رب العالمين لا من مدح المادحين .
قال الحسن البصري : إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام .
وقال سيفان : إذا استكمل العبد الفجور ملك عينيه يبكى بهما متى يشاء
وقال عبد الكريم بن رشيد : كنت في حلقه الحسن فجعل رجل يبكى وارتفع صوته فقال الحسن إن الشيطان ليبكى هذا الآن .
وكان أيوب السختيانى في ثوبه بعض الطول لستر الحال وكان إذا وعظ فرقَّ فَرَقَ من الرياء فيمسح وجهه ويقول : ما أشد الزكام .
وقال ابن الجوزى : كان ابن سيرين يتحدث بالنهار ويضحك فإذا جاء الليل فكأنه قتل أهل القرية .
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا *** الليل هزتني إليـك المضاجــع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنــى *** ويجمعني والهم بالليل جامع
وقال حماد بن زيد دخلنا على محمد بن واسع في مرضه نعودة قال فجاء يحيى البكاء يستأذن عليه فقالوا : يا أبا عبد الله هذا أخوك أبو سلمه على الباب قال: من أبو سلمه؟ قالوا : يحيى قال : من يحيى ؟ قالوا : يحيى البكاء قال حماد : وقد علم أنه يحيى البكاء فقال شر أيامكم يوم نسبتم فيه إلى البكاء .
وعن القاسم بن محمد قال : كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة إن كان يصلى آنا نصلى وإن كان يصوم آنا نصوم وإن كان يغزو فآنا نغزو وإن كان يحج آنا لنحج قال فكنا في بعض مسيرتا في طريق الشام ليله نتعشى في بيت إن طفئ السراج فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج ستصبح فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع فقلت في نفسي بهــذه الخشيــة فضل هذا الرجل علينا ولعله حين فقد السراج فصار إلى ظلمه ذكر القيامة .
وهذا شيخ الإسلام محمد بن أسلم الطوسى يقول عنه خادمه أبو عبد الله كان محمد يدخل بيتا ويغلق بابه ويدخل معه كوزاً من ماء فلم أدر ما يصنع حتى سمعت ابناً صغيراً له يبكى بكاءه فنهته أمه فقلت لها ما هذا البكاء؟ فقالت إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ القرآن ويبكى فيسمعه الصبي فيحاكيه فكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه فلا يرى عليه أثر البكاء .
من هنا نجد أن السلف الصالح أدرك حقيقة الإيمان وحققوه في حياتهم قولاً وعملاً وكانت سيرتهم العطرة زاداً يشحذ الهمم الراكدة وينير القلوب التي أظلمتها المعاصي ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقتطف بعضاً من سيرتهم ونسبح لحظات في جو إيماني مع خير الناس على وجه الأرض .
* كان محمد بن المتكدر ذات ليله قائم يصلى إذ استبكى فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله فسألوه : ما الذي أبكاك؟ فاستعجم عليهم فتمادى في البكاء فأرسلوا إلى أبى حازم وأخبروه بأمره فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكى فقال : يا أخي ما الذي أبكاك ؟ قد رعت أهلك فقال له إني مرت بي آيه من كتاب الله عز وجل قال : ما هي ؟ قال : قول الله تعالى [وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ] قال فبكى أبو حازم معه واشتد بكاؤهما فقال بعض أهله لأبى حازم جئناك لتفرج عنه فزدته ، فأخبرهم ما الذي أبكاهما .
* وعن مهران بن عمرو الأسدى قال سمعت الفضيل بن عياض عشية عرفه بالموقف وقد حال بينه وبين الدعاء البكاء يقول واسوأتاه وافضيحتاه وإن عفوت وروى أحمد بن سهل قال : قدم علينا سعد بن زنبور فأتيناه فحدثنا قال : كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنا عليه فلم يؤذن لنا فقيل لنا إنه لا يخرج إليكم أو يسمع القرآن قال وكان معنا رجل مؤذن وكان صيتا فقلنا له : إقرأ فقرأ [ألهاكم التكاثر] ورفع بها صوته فأشرف علينا الفضيل وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع ومعه خرقه ينشف بها الدموع من عينيه وأنشا يقول
بلغت الثمانين أو جزتها *** فماذا أؤمل أو أنتظــــر
أتى ثمانون من مولـــدى *** وبعد الثمانين ما ينتظر
عَّلتنى السنون فأبليننــى *** ......................
قال ثم خنقته العبره وكان معنا على بن خشرم فأتمه لنا يقول
علتنى السنون فأبليننى *** فرقت عظامى وكل البصر
وعن سفيان قال كان سعيد بن السائب الطائفي لاتكاد تجف له دمعه إنما دموعه جاريه دهره إن صلى فهو يبكى وإن طاف فهو يبكى وإن قرأ في المصحف فهو يبكى وإن لقيته في طريق فهو يبكى قال سفيان فحدثونى أن رجلاً عاتبه على ذلك فبكى ثم قال : إنما ينبغى أن تعذلنى وتعاتبنى على التقصير والتفريط فإنهما قد استوليا على قال الرجل : فلما سمعت ذلك انصرفت وتركته .
* وقال الثورى : جلست ذات يوم أحدث ومعنا سعيد بن السائب الطائفي فجعل سعيد يبكى حتى رحمته فقلت : يا سعيد ما يبكيك وأنت تسمعنى أذكر أهل الخير وفعالهم ؟ فقال : يا سفيان وما يمنعنى من البكاء إذا ذكرت مناقب أهل الخير وكنت عنهم بمعزل ؟ قال سفيان : حق له أن يبكى .
* وقال أبو مُسهر كان الأوزاعى رحمه الله يحيى الليل صلاه وقرآنا وبكاء وأخبرنى بعض إخوانى من أهل بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعى وتتفقد موضع مصلاه فتجده رطباً من دموعه في الليل.
* وعن القاسم بن محمد البغدادى قال كنت جار معروف الكرخى فسمعته ليله في السحر ينوح ويبكى وينشد :
أي شيء تريد منى الذنوب *** شغفت بي فليس عنى تغيب
ما يضر الذنوب لو أعتقتنى *** رحمه لي فقد علاني المشيـب
* قال الحارث بن سعيد كنا عند مالك بن دينار وعنده قارىء يقرأ [ إذا زلزلت الأرض زلزالها ] فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون حتى انتهى القارىء إلى [ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ] فجعل مالك يبكى ويشهق حتى غشى عليه فحمل بين القوم صريعاً .
* وروى أحد أقرباء رباح بن عمرو القيسى قال : كنت أدخل عليه في المسجد وهو يبكى وأدخل عليه البيت وهو يبكى فقلت له أنت دهرك في مأتم فبكى ثم قال يحق لأهل المصائب والذنوب أن يكونوا هكذا .
* أتى الحسن البصرى بكوز من ماء ليفطر عليه فلما أدناه إلى فيه بكى وقال ذكرت أمنية أهل النار قولهم [أن أفيضوا علينا من الماء] وذكرت ما أجيبوا به [إن الله حرمهما على الكافرين] .
* وعن إبراهيم بن الأشعث قال كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكى حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها .
* وعن عاصم قال : سمعت شقيق بن مسلمه يقول وهو ساجد رب اغفر لي رب اغفر لي إن تعف عنى تعف عنى تطولا من فضلك وإن تعذبني تعذبني غير ظالم لي قال ثم يبكى حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد .
* وصلى تميم الدارى ليله حتى أصبح أو قارب الصبح وهو يقرأ آية ويرددها ويبكى [ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ]
ذاك والله هو الإيمان الحق الذي ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقة العمل وهؤلاء هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون وإن لم يكن هؤلاء أولياء الله فليس لله ولى .
ذاك الإيمان الصادق تجسد في هؤلاء الصالحين في أحسن صورة فكونوا به أطهر حضارة على وجه الأرض وحملوه إلى كل الآفاق ففتحوا به البلاد وفتحوا معها قلوب العباد وحطموا الطوغيت ونشروا كلمة التوحيد .
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن أين نحن من هؤلاء ؟ وما سر هذه الانتكاسة التي يمر بها العالم الإسلامي ؟ ولكن حياة هؤلاء الصالحين تشير ببساطة إلى موضوع الخلل في حياتنا .
إنها ظاهرة ضعف الإيمان في القلوب .
إنها المادية التي طغت علينا في كل شيء .
إنه التشبث الأعمى بالحياة ونسيان رب الحياة ألا فلنعود إلى الله كما عادوا لكي ننهض بأمتنا كما نهضوا.(وما النصر إلا من عند الله) آل عمران 126
من سمات الصالحين
البكاء من خشيه الله
إن أهل المعاصي ليسوا من الله في شيء فقد اجتمعت على قلوبهم الذنوب حتى صارت قلوباً قاسية كالحجارة أو أشد قسوة وأبعد القلوب من الله القلب القاسي أما أهل الإيمان فهم أهل الله وخاصته الذين ما تركوا لله طاعة إلا شمروا عن ساعد الجد لأدائها وما علموا بشيء فيه رضا لله إلا فعلوه راغبين راهبين فأورثهم الله نور الإيمان في قلوبهم فصارت قلوبهم لينه من ذكره تعالى وقادت جوارحهم للخشوع فما تكاد تخلوا بالله إلا فاضت أعينهم من الدمع من كمال خشيته وكانت تلك الدموع أكبر حائل يحول بين صاحبها وبين النار .
ولقد أثنى الله في كتابة الكريم في أكثر من موضع على البكائين من خشيته تعالى فقال جل شأنه [وقرءاناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا] الإسراء 106-109 .
وقال تعالى [أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبين من ذريه آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذريه إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا] مريم 58 .
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ لايلج النار رجل بكى من خشيه الله حتى يعود اللبن في الضرع ولايجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ] رواة الترمزى .
قال المباركفوري قوله [ لا يلج ] من الولوج أي لا يدخل [ رجل بكى من خشيه الله ] فإن الغالب من الخشية امتثال الطاعة واجتناب المعصية [ حتى يعود اللبن في الضرع ] هذا من باب التعليق بالمحال كقوله تعالى [حتى يلج الجمل في سم الخياط] الاعراف 40 .
وروى الترمزى عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشيه الله وعين باتت تحرس في سبيل الله]
قال المباركفورى [ عينان لا تمسهما النار] أي لا تمس صاحبهما فعبر بالجزء عن الجملة وعبر بالمس إشارة إلى امتناع ما فوقه بالأولى [عين بكت من خشيه الله] وهى مرتبه المجاهدين مع النفس التائبين عن المعصية سواء كان عالماً أو غير عالم [وعين باتت تحرس في سبيل الله] وهى مرتبة المجاهدين في العبادة وهى شاملة لأن تكون في الحج أو طلب العلم أو الجهاد أو العبادة والأظهر أن المراد به الحارس للمجاهدين لحفظهم عن الكفار وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ سبعه يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ] وذكر منهم [ ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ] متفق عليه .
قال القرطبي وفيض العين بحسب الذاكر وما ينكشف له فبكاؤه خشيه من الله تعالى حال أوصاف الجلال وشوقاً إليه سبحانه حال أوصاف الجمال .
وروى ابن أبى الدنيا عن حمزة الأعمى قال : ذهبت بي أمي إلى الحسن فقالت يا أبا سعيد ابني هذا قد أحببت أن يلزمك فلعل الله أن ينفعه بك قال فكنت أختلف إليه فقال لي يوما : بابني أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه وابك في ساعات الليل والنهار في الخلوة لعل مولاك أن يطلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين .
ومن أقوال الحسن البصري : بلغنا أن الباكي من خشيه الله لا تقطر من دموعه قطره حتى تعتق رقبته من النار وقال أيضاً : لو أن باكيا بكى في ملأ من خشية الله لرحموا جميعا وليس شيء من الأعمال إلا له وزن إلا البكاء من خشية الله فإنه لا يقوم الله بالدمعة منه شيء وقال : ما بكى عبد إلا شهد عليه قلبه بالصدق أو الكذب .
وقال أبو جعفر الباقر : ما اغرورقت عين عبد بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار فإن سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذله وما من شيء إلا وله جزاء إلا الدمعة فإن الله يكفر بها بحور الخطايا ولو أن باكيا بكى من خشية الله في أمه رحم الله تلك الأمة.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : لأن أدمع دمعه من خشيه الله عز وجل أحب إلى من أن أتصدق بألف دينار .
وقال كعب الأحبار : لأن أبكى من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهبا .
وعن أبى معشر قال : رأيت عون بن عبد الله في مجلس أبى حازم يبكى ويمسح وجهه بدموعه فقيل له لم تمسح وجهك بدموعك ؟ قال : بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار .
وبالتأمل في سيرة هؤلاء الصالحين الباكين من خشية الله تعالى نجد أنهم اشتركوا في صفة واحدة على تنوع عباداتهم واجتهاداتهم في طاعة الله تعالى تلك الصفة هي الإخلاص المنافي للرياء فلقد كانوا رضي الله عنهم أبعد الناس عن أن يراهم أحد حال البكاء حرصاً منهم أن لا يدخل العُجْب قلوبهم فتبطل عبادتهم وتراهم شددوا بلسان الحال والمقال على هذه الصفة ابتغاء نيل الأجر كاملاً غير منقوص من رب العالمين لا من مدح المادحين .
قال الحسن البصري : إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام .
وقال سيفان : إذا استكمل العبد الفجور ملك عينيه يبكى بهما متى يشاء
وقال عبد الكريم بن رشيد : كنت في حلقه الحسن فجعل رجل يبكى وارتفع صوته فقال الحسن إن الشيطان ليبكى هذا الآن .
وكان أيوب السختيانى في ثوبه بعض الطول لستر الحال وكان إذا وعظ فرقَّ فَرَقَ من الرياء فيمسح وجهه ويقول : ما أشد الزكام .
وقال ابن الجوزى : كان ابن سيرين يتحدث بالنهار ويضحك فإذا جاء الليل فكأنه قتل أهل القرية .
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا *** الليل هزتني إليـك المضاجــع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنــى *** ويجمعني والهم بالليل جامع
وقال حماد بن زيد دخلنا على محمد بن واسع في مرضه نعودة قال فجاء يحيى البكاء يستأذن عليه فقالوا : يا أبا عبد الله هذا أخوك أبو سلمه على الباب قال: من أبو سلمه؟ قالوا : يحيى قال : من يحيى ؟ قالوا : يحيى البكاء قال حماد : وقد علم أنه يحيى البكاء فقال شر أيامكم يوم نسبتم فيه إلى البكاء .
وعن القاسم بن محمد قال : كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة إن كان يصلى آنا نصلى وإن كان يصوم آنا نصوم وإن كان يغزو فآنا نغزو وإن كان يحج آنا لنحج قال فكنا في بعض مسيرتا في طريق الشام ليله نتعشى في بيت إن طفئ السراج فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج ستصبح فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع فقلت في نفسي بهــذه الخشيــة فضل هذا الرجل علينا ولعله حين فقد السراج فصار إلى ظلمه ذكر القيامة .
وهذا شيخ الإسلام محمد بن أسلم الطوسى يقول عنه خادمه أبو عبد الله كان محمد يدخل بيتا ويغلق بابه ويدخل معه كوزاً من ماء فلم أدر ما يصنع حتى سمعت ابناً صغيراً له يبكى بكاءه فنهته أمه فقلت لها ما هذا البكاء؟ فقالت إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ القرآن ويبكى فيسمعه الصبي فيحاكيه فكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه فلا يرى عليه أثر البكاء .
من هنا نجد أن السلف الصالح أدرك حقيقة الإيمان وحققوه في حياتهم قولاً وعملاً وكانت سيرتهم العطرة زاداً يشحذ الهمم الراكدة وينير القلوب التي أظلمتها المعاصي ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقتطف بعضاً من سيرتهم ونسبح لحظات في جو إيماني مع خير الناس على وجه الأرض .
* كان محمد بن المتكدر ذات ليله قائم يصلى إذ استبكى فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله فسألوه : ما الذي أبكاك؟ فاستعجم عليهم فتمادى في البكاء فأرسلوا إلى أبى حازم وأخبروه بأمره فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكى فقال : يا أخي ما الذي أبكاك ؟ قد رعت أهلك فقال له إني مرت بي آيه من كتاب الله عز وجل قال : ما هي ؟ قال : قول الله تعالى [وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ] قال فبكى أبو حازم معه واشتد بكاؤهما فقال بعض أهله لأبى حازم جئناك لتفرج عنه فزدته ، فأخبرهم ما الذي أبكاهما .
* وعن مهران بن عمرو الأسدى قال سمعت الفضيل بن عياض عشية عرفه بالموقف وقد حال بينه وبين الدعاء البكاء يقول واسوأتاه وافضيحتاه وإن عفوت وروى أحمد بن سهل قال : قدم علينا سعد بن زنبور فأتيناه فحدثنا قال : كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنا عليه فلم يؤذن لنا فقيل لنا إنه لا يخرج إليكم أو يسمع القرآن قال وكان معنا رجل مؤذن وكان صيتا فقلنا له : إقرأ فقرأ [ألهاكم التكاثر] ورفع بها صوته فأشرف علينا الفضيل وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع ومعه خرقه ينشف بها الدموع من عينيه وأنشا يقول
بلغت الثمانين أو جزتها *** فماذا أؤمل أو أنتظــــر
أتى ثمانون من مولـــدى *** وبعد الثمانين ما ينتظر
عَّلتنى السنون فأبليننــى *** ......................
قال ثم خنقته العبره وكان معنا على بن خشرم فأتمه لنا يقول
علتنى السنون فأبليننى *** فرقت عظامى وكل البصر
وعن سفيان قال كان سعيد بن السائب الطائفي لاتكاد تجف له دمعه إنما دموعه جاريه دهره إن صلى فهو يبكى وإن طاف فهو يبكى وإن قرأ في المصحف فهو يبكى وإن لقيته في طريق فهو يبكى قال سفيان فحدثونى أن رجلاً عاتبه على ذلك فبكى ثم قال : إنما ينبغى أن تعذلنى وتعاتبنى على التقصير والتفريط فإنهما قد استوليا على قال الرجل : فلما سمعت ذلك انصرفت وتركته .
* وقال الثورى : جلست ذات يوم أحدث ومعنا سعيد بن السائب الطائفي فجعل سعيد يبكى حتى رحمته فقلت : يا سعيد ما يبكيك وأنت تسمعنى أذكر أهل الخير وفعالهم ؟ فقال : يا سفيان وما يمنعنى من البكاء إذا ذكرت مناقب أهل الخير وكنت عنهم بمعزل ؟ قال سفيان : حق له أن يبكى .
* وقال أبو مُسهر كان الأوزاعى رحمه الله يحيى الليل صلاه وقرآنا وبكاء وأخبرنى بعض إخوانى من أهل بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعى وتتفقد موضع مصلاه فتجده رطباً من دموعه في الليل.
* وعن القاسم بن محمد البغدادى قال كنت جار معروف الكرخى فسمعته ليله في السحر ينوح ويبكى وينشد :
أي شيء تريد منى الذنوب *** شغفت بي فليس عنى تغيب
ما يضر الذنوب لو أعتقتنى *** رحمه لي فقد علاني المشيـب
* قال الحارث بن سعيد كنا عند مالك بن دينار وعنده قارىء يقرأ [ إذا زلزلت الأرض زلزالها ] فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون حتى انتهى القارىء إلى [ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ] فجعل مالك يبكى ويشهق حتى غشى عليه فحمل بين القوم صريعاً .
* وروى أحد أقرباء رباح بن عمرو القيسى قال : كنت أدخل عليه في المسجد وهو يبكى وأدخل عليه البيت وهو يبكى فقلت له أنت دهرك في مأتم فبكى ثم قال يحق لأهل المصائب والذنوب أن يكونوا هكذا .
* أتى الحسن البصرى بكوز من ماء ليفطر عليه فلما أدناه إلى فيه بكى وقال ذكرت أمنية أهل النار قولهم [أن أفيضوا علينا من الماء] وذكرت ما أجيبوا به [إن الله حرمهما على الكافرين] .
* وعن إبراهيم بن الأشعث قال كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكى حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها .
* وعن عاصم قال : سمعت شقيق بن مسلمه يقول وهو ساجد رب اغفر لي رب اغفر لي إن تعف عنى تعف عنى تطولا من فضلك وإن تعذبني تعذبني غير ظالم لي قال ثم يبكى حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد .
* وصلى تميم الدارى ليله حتى أصبح أو قارب الصبح وهو يقرأ آية ويرددها ويبكى [ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ]
ذاك والله هو الإيمان الحق الذي ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقة العمل وهؤلاء هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون وإن لم يكن هؤلاء أولياء الله فليس لله ولى .
ذاك الإيمان الصادق تجسد في هؤلاء الصالحين في أحسن صورة فكونوا به أطهر حضارة على وجه الأرض وحملوه إلى كل الآفاق ففتحوا به البلاد وفتحوا معها قلوب العباد وحطموا الطوغيت ونشروا كلمة التوحيد .
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن أين نحن من هؤلاء ؟ وما سر هذه الانتكاسة التي يمر بها العالم الإسلامي ؟ ولكن حياة هؤلاء الصالحين تشير ببساطة إلى موضوع الخلل في حياتنا .
إنها ظاهرة ضعف الإيمان في القلوب .
إنها المادية التي طغت علينا في كل شيء .
إنه التشبث الأعمى بالحياة ونسيان رب الحياة ألا فلنعود إلى الله كما عادوا لكي ننهض بأمتنا كما نهضوا.(وما النصر إلا من عند الله) آل عمران 126